الكسوف أية يخوف الله بها عباده
أبوالهيثم محمد بن آل عجمي
بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله
و بعد،
تأمل حال الشمس و القمر في طلوعهما و غروبهما لإقامة دولتي الليل و النهار ،،،فكيف يتهنى الناس بالعيش و كيف يسعون في حوائجهم مع فقد النور و الدنيا مظلمة ،، و كيف يعيش الناس بلا هدوء و لا قرار مع فرط الحاجة إلى السبات و جموم الحواس بالنوم المعين هضم الطعام و راحة الأعضاء والأبدان ،و لولا غروب الشمس لكانت الأرض تحمى بدوامها حتى يحترق كل ما عليها ، و لكن كانت الشمس بمنزلة السراج الذي يرفع لأهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا و يهدءوا ،، فصار ضياء النهار مع ظلام الليل ، و حر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين على تمام مصالح العالم ،، و ما ذلك إلا بقدرة الملك الحكيم ، كما أشار إلى ذلك سبحانه في قوله : "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (القصص : 72)
و المتأمل في حال الشمس و القمر وما أودعه الله فيهما من النور و الإضاءة و قد جعل لهما بروجا و منازل ينزلانها مرحلة بعد مرحلة لإقامة دولة السنة و لإتمام مصالح العباد ، فبذلك يعلم حساب الأعمار و الآجال المؤجلة للديون و الإيجارات و المعاملات و العدد و غير ذلك كما في قوله
"(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس : 5 )
فهذه الشمس و هذا القمر آيتان من آيات الله عز وجل ،من نظر إليهما بطرف عين قلبه لعلم أنه لا عظيم على الإطلاق و لا كريم و لا رحيم و لا عزيز و لا إله حق يستحق العبودية إلا الله الواحد الأحد
فكم من الآيات الكونية لا يزال كثير من الناس يمرون عليها ، و قد اعتادوها حتى كادت قلوبهم لا تتأثر بها ، فذكرهم الله أنها من آياته حتى أقسم بها لبيان عظمتها ، فمروا عليها صما و عميانا ،، فذكرهم القرآن : (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل : 17 )
فإذا بقلوب المؤمنين تتفطر فيجري على لسانهم التسبيح (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (الإسراء : 44 )
و أهل الغفلة لا يفقهون تسبيح المؤمنين ، لأنهم ما عرفوا إلا الشهوات و الملذات ، قد باعوا الخشية و التعظيم بالضيعات ، فما لانت قلوبهم لآيات الله ، فأما الجبال " يا جبال أوبي معه " و لو أنزل على جبل من الآيات " لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " فهذا حال الضخور و الحجارة ، وأما قلوب أولئك فهي أشد قسوة
و لعلك ترى من الناس من يخاف الخلق و لا يخاف رب الخلق ، أليس الفقر مخلوق ، و الرزق مخلوق ، والمرض مخلوق ، و أذية الناس مخلوقة ،وسيئات النفس و الدنيا و الهوى ، حتى أصبح الخوف من كل هذا عريانا عن واجب التوكل و الدعاء و العبودية لرب الخلق سبحانه و تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله
فإذا بالله سبحانه و تعالى يرسل من جنوده التي لا يعلمها إلا هو آيتان اعتاد الناس رؤيتهما ، ولا يستشعروا أنها نعمة ،، فمن ذا الذي يحمد الله و يشكره على نعمة الشمس و القمر و تذليل الأرض و رفع السماوات بلا عمد ؟؟ حتي تنقلب إلى آيتان يخوف الله بهما عباده
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا اللهم هل بلغت " الصحيح الجامع .
قال الله تعالى ( َمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (الإسراء : 59)
فإذا ظهرت الآيات انقادت لها النفوس و التجأت إلى الله و انفكت عن الدنيا ، فيفزع إلى ذلك العارفون كما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة
(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت : 37 )
فتلك الحالة غنيمة للمؤمن يطير بها إلى رضا ربه بجناحي الخوف و الرجاء
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات 40-41 )
لكن لا يزال بعض العمى يمرون على الآيات الكونية و كأنها ظاهرة عرضية أو طبيعية ، تطبعت لها طبائعهم حتى طبع الله عليها ، نعوذ بالله من الخذلان .
( َنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) (الإسراء : 60 )
فسبحان الله ( مالكم لا ترجون لله وقارا )
ثم كيف لا يخافون و قد سمعوا بالمثلات و العقوبات و الآيات في حق غيرهم ، وهذا مجرد سماع ، فكيف بمن رآها في غيره ، وكيف بمن وجدها في نفسه ؟؟
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ) (فصلت : 53 )