بسم الله الرحمن الرحيم
قال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ اَسْرَفُوا عَلَى اَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ اِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبسط يده باليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].
وقال عليه الصلاة والسلام: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» [رواه مسلم].
لذا اعلم أيها الشاب أن الموت أمامك فإن الموت حق لا ريب فيه، ويقين لا شك فيه، وهو انقطاع ومفارقة وحيلولة وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار.
فالموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، إنه هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وقاطع للأمنيات، وميتم للبين والبنات، إنه الواعظ الصامت يأخذ الغني والفقير، والصحيح والسقيم، والشريف والوضيع، والصغير والكبير. أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشياً؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا؟ أين الأصدقاء والأحبة؟ هل تحس منهم من أحد؟ أو تسمع لهم ركزاً؟ أفناهم الله مفني الأمم، وأبادهم مبيد الأمم، وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحباب والأولياء وهجرهم الأخوان والأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء لو نطقوا لأنشدوا:
مقيم بالحجون رهين رمس *** وأهلي راحلون بكل واد
كأني لم أكن لهموا حبيبا *** ولا كانوا الأحبة في السواد
فعرجوا بالسلام فإن أبيتم *** فأمنوا بالسلام على العباد
أخي تخيل رحلة الغريب..
تخيل نفسك طريحاً بين أهلك، وقد وقعت في الحسرة، وجفتك العبرة، وثقل منك اللسان، واشتدت بك الأحزان، وعلا صراخ الأهل والأخوان.
كأني بين تلك الأهل منطرحاً *** على الفراش وأيديهم تقلبني
كأني وحولي من ينوح ومن *** يبكي علي ويناعي ويندبني
وقد أتوا بالطبيب كي يعالجني *** ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها *** من كل عرق بلا رفق ولا هوني
ويدعى لك الأطباء ويجمع لك الدواء فلا يزيدك إلا هماً وبلاء. وبعدها تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيأس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت فالحسرة، وجاءتك السكرة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} [ق:19].
تلك اللحظة هي آخر لحظة تلقي فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، تلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا الفانية وتبدو على وجهك معالم السكرات وتخرج من صميم قلبك الآهات والزفرات.
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها *** من كل عرق بلا رفق ولا هوني
ثم اشتد بك النزع والسياق وقد بلغت الروح التراقي {كَلَّا اِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاق} [القيامة: 26، 27] وبطلت بعد كل حيلة، وعجزت عن كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف هو اِلَى {رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاق} [المنافقون:10] في تلك اللحظة تطوى فيها صحيفة أعمالك، إما على حسنات أو على سيئات وتنادي وتقول {رَبِّ لَوْلَا اَخَّرْتَنِي اِلَى اَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10]، تحس في تلك اللحظة أن قلبك يتقطع من الألم. تحس في تلك اللحظة بشعور الندم.
تحس أن الايام انتهت، وأن الدنيا قد انقضت، فتخيل نفسك أنت أيها القارئ يوم تقلبك على المغتسل بيد الغاسل وقد زال عنك عزك وسلب مالك وأخرجت من بيت أحبابك وجهزت لترابك ونادوا أين المغسل؟
وقام من كل أحب الناس في عجل *** نحو المغسل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلا حذقا *** حرا أديبا أريبا عارفا فطني
فجاءني رجل منهم فجردني *** من الثياب وأعراني وأفردني
ثم ألبسوك الكفن وحملت إلى دار العفن، وأخرجت من بين أحبابك وجهزت لترابك. وفي لحظة واحدة أصبحت كأن لم تكن شيئا مذكورا، طويت صحفاتك وصرت في عدد الأموات، وأخرجت من الدنيا وغادرت هذه الحياة.
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا *** على رحيل بلا زاد يبلغني
وحملوني على الأكتاف أربعة *** من الرجال وخلفي يشيعني
أخي.. قال التميمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى".
وقال الدقاق: "من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة".
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عيشاً لا موت فيه".
يا من بدنياه اشتغل *** وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل
أخي.. إن القلوب والأنفس تتعلق بل تتنافس على حطام هذه الدنيا الفانية، ولربما أحدث هذا الأمر نسيان الموت والقبر والدار الآخرة، ولربما قسي القلب وفرط في جنب الله، فنعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا ترفع، نعوذ بالله من هؤلاء الأربع.
أخي.. هل تأملت وأنت ترى الميت على الأعناق ويذهب به إلى مسكنه وداره التي هي أول منازل الآخرة؟ هل رأيت الميت عندما يدفن ويوضع في القبر وحده؟ لا مال له ولا أب ولا أم، ولا زوجة له، وكيف يوسد لبنه تحت رأسه ويوجه للقبلة وتوضع عليه اللبنات ثم يهل عليه التراب.
أخي..
فلو إنا إذا متنا تركنا *** لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعده عن كل شـئ
هل فكرت بحالك واستشعرت لو أنك هذا الميت الذي يدفن ماذا والله ستتمنى؟ هل فكرت أن هذا هو طريق كل حي وأن وأن الموت والقيامة آتية لا محالة.
هو الموت فاصنع كل ما أنت صانع *** وأنت لكأس الموت لا بد جارع
كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله
أخي.. قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد} [ق:19] فمن يجادل في الموت وسكرته؟ ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته {فَاِذَا جَاءَ اَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61].
أخي.. عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
أخي.. زر القبور يوماً وقف وقفة تأمل ومحاسبة! ألم يكن أصحاب أولئك القبور يعيشون على ظهر هذه الأرض يأكلون ويشربون ويمرحون.. إلخ. من أجل ذلك ولخطورة الأمر أردت تذكير نفسي المقصرة وتذكير إخواني بتذكير الموت وذلك بزيارة القبور لكي ترق هذه القلوب القاسية، ولتهدأ تلك الأنفس الظالمة، ولتتذكر أنه مهما طال الزمن أو قصر ومهما بلغ الإنسان أعلى الدرجات والمستويات، فهو مسكين غداً يرحل عن هذه الدنيا ويتركها بلا رجعة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ اَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُم} [الأنعام:94]، فالبدار البدار إلى التوبة يا عبدالله فبها تسمو نفسك وينشرح صدرك وتسود في الدنيا والآخرة، فكلمات التائبين صادقة ودموعهم حارة وهممهم قوية، ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان، ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة، وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب، وإياك إياك من التسويف والتأخير فإنك لا تدري هل ستكون غداً في عداد الأحياء أم ممن دفنوا تحت أطباق الثرى وودعوا هذه الدنيا وأصبحوا في ظلمة القبور وفي ضيق اللحود بعد ان سكنوا الدور والقصور، فأرع سمعك أخي الشاب لداعي الحق وأجب نداء الله تعالى إذ يقول: {يَا اَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ اِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} [الأنفال:24]، وأعلنها بصراحة مجلجلة وبصيحات مدوية تهز الوجدان وتعطر الآذان وتبعث في القلوب الإيمان: "إن السعادة الحقيقية لا توجد إلا في طاعة الرحمن".
فأقبل على الله تعالى بقلبك وقالبك بروحك وجسدك وستجد حلاوة الإيمان قبل أن يتمكن منك ملك الموت ويقبض روحك فالموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً فأقبل على الله وتب إليه فإن الله تواب رحيم رحمته وسعت كل شئ.
يقول سيفان الثوري رحمه الله تعالى:
يا نفس توبي فإن الموت قد حان *** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا *** لقطاً وتلحق أخرانا بأولانـا
غي كل يوم لنا ميت نشيعه *** نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها *** خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن *** أن تقصري قد آن قد آن
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا *** ننسى بغفلتنا من ليـس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا *** كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
صاحت بهم حوادث الدهر فانقلبوا *** مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها *** واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا
يا راكضاً من ميادين الهـــوى مرحا *** ورافلاً في الثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب *** يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
وصلى الله على نبينا محمد